التاريخ مُنّصل بين الماضي والحاضر يؤدي إلى استشراف المستقبل ..لكن شعب بلدي غير قادر على استشراف هذا المستقبل .. تأملات من واقع حديث الشارع المصري .
=====================
شئ لفت نظري بالأمس .. في بناء فكر ونسيج الشعب المصري أو لنكن أكثر دقة "شريحة من الشعب المصري ".. دارت مناقشة بين مجموعة الركاب في الميكروباص حول الأوضاع الحالية .. ونظراً لأن المرور صعب جداً والشوارع زحمة بدرجة غير عادية والمشوار الذي كان يأخذ نصف ساعة في الماضي أصبح يأخذ ساعتين وأكثر الآن .. وكعادة الشعب المصري الصبور الودود فقد بدأوا في مناقشات مع بعضهم البعض حول الأوضاع الحالية في مصر حتى يقتلون ملل الطريق ..كانت أعمار الركاب متفاوتة لكن يغلب عليها أنها لا تشمل الشباب فـ طلاب الجامعات في أجازات الآن.. فالجميع فوق الأربعين والخمسين تقريباً هم آباء وأمهات وأجداد .. وكان بعض الركاب من المسيحيين من سكان الكيلو 21 ..كنت حريصة على سماع كلماتهم ومناقشاتهم.. كانت كلماتهم ومناقشاتهم تأريخ للحالة في مصر مُنذ عهد عبد الناصر وكيف أنهم كانوا يُكّنون لهذا الزعيم كل الحب والاحترام .. ثم مُنذ حرب الاستنزاف بعد نكسة 67وكيف أن الشعب المصري تحمّل الكثير وكيف أنه عاش " 7 سنين سودا " على حد تعبيرهم قبل انتصار 73 .. وكيف أنهم كانوا يعيشون بالكاد حيث كان "العيش" على "البطايق " وكانت الأسرة لا تأخذ أكثر من "عشرة أرغفة" .. وكيف أنهم كانوا يلبسون من الكساء الشعبي وأنه إذا نظرت إلى "حبل الغسيل" عند كل جار خيل إليك أنه حبل الغسيل الخاص بك " الهدوم كلها زي بعضها عند أهل الشارع الواحد" الرجال يلبسون بيجامات شبه بعض والسيدات يلبسون جلاليب شبه بعض وكيف أنهم عاشوا على الملابس الصيني الرخيصة التي كانت توزع في مجالات أعمالهم .. وكانوا " راضيين ومبسوطين وبيحبوا بلدهم ومستحملين عشانها".. وكيف أن الشهيد كان يتم الإتيان به ليلاً حتى لايشعر الشعب بفقدان أحد أبناء مصر فيؤثر ذلك على المعنويات العامة للشعب المصري بصفة عامة وعلى الجيش المصري والجندي المصري بصفة خاصة ..يقولون ذلك وهم يُرددون من حين لآخر " احنا كنا كده إيه اللي حصل دلوقتي مش عارفين" .. ثم تطرق الحديث بين هؤلاء الرجال وتلك السيدة المسيحية والتي يقرب عمرها ما فوق السبعين الغاية في الطيبة هي وزوجها وإبنتهما عن العلاقة بين المسلم والمسيحي في تلك الأيام وكيف كانت على درجة عالية من الوئام وذكرت لهم السيدة المسيحية الطيبة مثالاً بإبنة أحد الأسر المسلمة التي جاء لها عريس فقالت له البنت أنا مسلمة لكني "متربية في بيت المسيحيين دول" فما كان من خطيبها إلا أن قال لها " إنت والمسيحيين دول أهلي وفي عينيا " بينما الأن -تستطرد السيدة المسيحية- وتقول "إبن بنتي جاء من المدرسة يوما مضروباً من مُعلّمهِ عندما عرف أنه مسيحي" فردّوا عليها بمنتهى الود يشرحون لها ويُفسرون لها ويُطيبون خاطرها" .. وتطرقت المناقشة بين الرجال وهذه السيدة المسيحية تشرح لهم سماحة الإسلام وكيف أن المجتمع كان نسيجاً واحداً وأنها لم تشعر بأي ضرر من جيرانها المسلمين في يوم من أيام الماضي أما الآن فالوضع " اتغّير".. واستمرت المناقشة إلى أن وصلت إلى رائحة وطعم الملوخية والبامية وأنهم كانوا جميع الجيران مسلمين ومسيحيين يأكلون من طبق الملوخية الواحد " اللي ريحته وطعمه يجنن مش زي ملوخية اليومين دول اللي لا لها طعم ولا ريحة ع شان الكيماويات اللي في الزراعة" .. ومما آثار اهتمامي أنه يوجد إجماع بين جميع الركاب مسيحيين ومسلميين على كم وكيف المعاناة التي عانوها في سبيل مصر لكنهم كانوا سعداء وكان عندهم أمل بأن " الجاي أفضل" أما الآن فهم لا يرون أن " الجاي أفضل " .. كما أنهم كانوا "سعداء بالقليل " الذي عندهم فقد كان منتهى أملهم سماع أغنية لأم كلثوم .. لكنهم "لا يرون مثل هذه السعادة" في وجوه أبنائهم الآن الذين توفرت لهم إمكانيات لم تكن متوفرة لدى آبائهم عندما كانوا في نفس عمرهم مثل الفلوس والشقة والجهاز والاب توب والنت والتعليم لأعلى مستوى .. ووجدتهم يتساءلون " أبنائنا الآن مكّشرين علطول ومُكتئبين علطول مع أنهم اتجوزوا في سن أصغر مننا وعندهم إمكانيات أكبر مننا " .. وكانوا دائمي المدح في العهود السابقة عهد عبد الناصر والسادات ..و لكن ما لفت نظري أنهم يمدحون عهد "مُبارك" ووزراء حكوماته خاصة " حكومة الجنزوري" .. وكيف أن محافظ الأسكندرية السابق المحجوب كان يُشرف بنفسه صباحاً على المرور ويقف في إشارات المرور وفي المساء يُشرف على غسيل صناديق القمامة .. لأنه كانت هناك دولة وكان هناك وزراء "رجّالة " في عهد مُبارك .. أما الآن "فنقيب الشرطة" لا يستطيع مجرد الكلام مع سائق الأجرة المخالف .. والجميع يده مُرتعشة ..والشوارع كلها "قمامة وروائح كريهة" .. وجدتهم يقولون كلما رأوا سائق مُخالفاً " آدي الثورة واللي جابته الثورة ".. ثم يقولون " أن مجموعة شباب يُحركون البلد الآن وده مش كويس" .. ثم يسخر بعضهم من " أن شباب وبنات الثورة كانوا لابسين جونتيات وأنهم كانوا من شريحة بتلبس ع الموضة " محزق وملزق" على حد تعبيرهم وبيدهنوا الأرصفة بعد تنحي مبارك وهي دي يعني النظافة " ..فيرد البعض الآخر ويقول " لأ ده كويس لكن كانوا يستمروا في هذا العمل المشكلة أنهم مستمروش"..سامحوني أنا حريصة على نقل التعبيرات كما هي لأهمية دلالتها .. ثم تطرق الحديث إلى الانتخابات الرئاسية وما كان فيها ومن قبلها التشريعية وإلى الإخوان ومكتب الإرشاد في المقطم و6 اكتوبر والدكتور مرسي وإيران وحماس والعراق والأنفاق وفلسطين .. وكانوا يتحدثون بمرارة أحياناً وأحياناً آخري باستنكار وثالثة بعدم تعاطف ورابعة بتخّوف من المستقبل .. ويُكّررون أنهم غير قادرين على معرفة القادم وأنهم خائفين على أولادهم وأحفادهم من القادم .. كانوا يقولون ويضحكون ويقولون "باين علينا حنتمسك النهارده " .. لقد نزلت في محطتي وكنت أتمنى أن أتواصل معهم إلى نهاية الخط .. لكني سرت وأنا أردد بيني وبين نفسي ..هذا هو الشعب المصري .. ما سمعته من هؤلاء يفوق عندي ما أسمعه من النخب التي "تتوهنا " يوماً بعد يوم .. فقد شعرت أنني كنت في قلب موسوعة مصرية شعبية لها رؤيتها وتحليلها وبمنتهى الدقة والثقة .. اتفقنا معها أو اختلفنا فلها توجهها ..ثم أن ذلك جعلني أفكر .. وأتساءل .. هل ما نكتبه نحن في عالم الفيس بوك هذا هو الواقع أم هو منفصل عنه أم أنه تجسيد مُتجّمل له .. حقاً عالم الفيس بوك هذا عالم افتراضي خيالي ننشد فيه المثالية والمدينة الفاضلة ..لا ننكر أنه الشرارة الأولى التي فجرت الثورة لا ننكر الدور الذي لعبه في ثورة 25 يناير 2011 .. لكن أليس من الأجدّر أن نُغّير إلى مجال آخر يجعل هناك استمرارية للثورة في ضوء هذه السيكولوجية ..سيكولوجية شريحة من الشعب المصري لا أعتقد أنها ستتغير كثيراً لدى بعض الشرائح الآخرى فيما عدا النخب التي تعيش في غرف مكيفة ..لماذا يشعر شعب بلدي بهذه المرارة .. لماذا يشعر شعب بلدي بمشاعر الاكثئاب هذه ..دا شعب جميل والله .. لا تتخيل درجة الحرارة داخل وخارج الميكروباص وهو يتحملها ويقوم بتحليل الموقف في مصر أفضل من أي خبير استراتيجي يتنقل بين الفضائيات .. شعب يضحك ويسخر ويفلسف الأمور ببساطة فتسمعه يقول " المفروض الحكومة تمشي شوية طيارات تشغل مراوح في الجو عشان تجيبلنا شوية هوا "..هل كل ما حدث بعد ذلك في الثورة ومسارها راجع إلى هذا الفكر الذي اتضح من مثل تلك المناقشات بين نوعيات مختلفة من الشعب المصري.. هل ما حدث بعد ذلك للثورة هو نتيجة السياسات الخاصة بالنخبة ..هل مصر ملك لهذا الشعب أم أنها ملك النخبة أم ملك تيار معين أم ملك فصيل مُعين أم ملك الساسة أم ملك المفكّرين وأين فكر المفكّرين من هذا الشعب ..لماذا نشعر دائماً بفجوة جيليلة ليس بين جيلين وهذا هو الوضع الطبيعي وإنما نجدها أحياناً بين أبناء الجيل الواحد ..هل نحن من نصنع الفحوة الجيلية ونغذيها ..هل العيب في الشعب ..هل العيب في الحكام ..هل العيب في الجينات المصرية .. هل العيب في السياسات .. هل العيب في الموروث الثقافي ..هل العيب في السمات الشخصية ..هل هو الحنين للماضي .. التاريخ مُتّصل بين الماضي والحاضر يؤدي إلى استشراف المستقبل .. لكن شعب بلدي غير قادر على استشراف هذا المستقبل .. للأسف ..
-----------------
د.شهيرة عبد الهادي
الأسكندرية
12 /7 /2012