السبت، 30 أغسطس 2014

ما أصعب الكلام ( إلى ناجي العلي ) .. لـ .. أحمد مطر

ما أصعب الكلام ( إلى ناجي العلي) .. لـ " أحمد مطر "
==============================
ِشكراً على التأبينِ والإطراءِ

يا معشرَ الخطباء والشعراءِ

شكراً على ما ضاعَ من أوقاتكم

في غمرةِ التدبيـج والإنشاءِ

وعلى مدادٍ كان يكفي بعضُـه

أن يُغرِقَ الظلماءَ بالظلماءِ

وعلى دموعٍ لو جَـرتْ في البيدِ

لانحلّـتْ وسار الماءُ فوق الماءِ

وعواطفٍ يغـدو على أعتابها

مجنونُ ليلى أعقـلَ العقلاءِ

وشجاعـةٍ باسم القتيلِ مشيرةٍ

للقاتلين بغيرِما أسمـاءِ

شكراً لكم، شكراً، وعفواً إن أنا

أقلعتُ عن صوتي وعن إصغائي

عفواً، فلا الطاووس في جلدي ولا

تعلو لساني لهجةُ الببغاءِ

عفواً، فلا تروي أساي قصيدةٌ

إن لم تكن مكتوبةً بدمائي

عفواً، فإني إن رثيتُ فإنّما

أرثي بفاتحة الرثاء رثائي

عفواً، فإني مَيِّتٌ يا أيُّها

الموتى، وناجي آخر الأحياء !

***

"ناجي العليُّ" لقد نجوتَ بقدرةٍ

من عارنا، وعلَوتَ للعلياءِ

إصعـدْ، فموطنك السّماءُ، وخلِّنا

في الأرضِ، إن الأرضَ للجبناءِ

للمُوثِقينَ على الّرباطِ رباطَنا

والصانعينَ النصرَ في صنعاءِ

مِمّن يرصّونَ الصُّكوكَ بزحفهم

ويناضلونَ برايةٍ بيضاءِ

ويُسافِحونَ قضيّةً من صُلبهم

ويُصافحونَ عداوةَ الأعداءِ

ويخلِّفون هزيمةً، لم يعترفْ

أحدٌ بها.. من كثرة الآباءِ !

إصعَـدْ فموطنك المُـرّجَى مخفرٌ

متعددُ اللهجات والأزياءِ

للشرطة الخصيان، أو للشرطة

الثوار، أو للشرطة الأدباءِ

أهلِ الكروشِ القابضين على القروشِ

من العروشِ لقتل كلِّ فدائي

الهاربين من الخنادق والبنادق

للفنادق في حِمى العُملاءِ

القافزين من اليسار إلى اليمين

إلى اليسار كقفزة الحِرباءِ

المعلنين من القصورِ قصورَنا

واللاقطين عطيّةَ اللقطاءِ

إصعدْ، فهذي الأرض بيتُ دعارةٍ

فيها البقاءُ معلّقٌ ببغاءِ

مَنْ لم يمُت بالسيفِ مات بطلقةٍ

من عاش فينا عيشة الشرفاء

ماذا يضيرك أن تُفارقَ أمّةً

ليست سوى خطأ من الأخطاءِ

رملٌ تداخلَ بعضُهُ في بعضِهِ

حتى غدا كالصخرة الصمّاءِ

لا الريحُ ترفعُها إلى الأعلى

ولا النيران تمنعها من الإغفاءِ

فمدامعٌ تبكيك لو هي أنصفتْ

لرثتْ صحافةَ أهلها الأُجراءِ

تلك التي فتحَتْ لنَعيِكَ صدرَها

وتفنّنت بروائعِ الإنشاءِ

لكنَها لم تمتلِكْ شرفاً لكي

ترضى بنشْرِ رسومك العذراءِ

ونعتك من قبل الممات، وأغلقت

بابَ الرّجاءِ بأوجُهِ القُرّاءِ

وجوامعٌ صلّت عليك لو انّها

صدقت، لقرّبتِ الجهادَ النائي

ولأعْلَنَتْ باسم الشريعة كُفرَها

بشرائع الأمراءِ والرؤساءِ

ولساءلتهم: أيُّهمْ قد جاءَ

مُنتخَباً لنا بإرادة البُسطاء ؟

ولساءلتهم: كيف قد بلغوا الغِنى

وبلادُنا تكتظُّ بالفقراء ؟

ولمنْ يَرصُّونَ السلاحَ، وحربُهمْ

حبٌ، وهم في خدمة الأعداءِ ؟

وبأيِّ أرضٍ يحكمونَ، وأرضُنا

لم يتركوا منها سوى الأسماءِ ؟

وبأيِّ شعبٍ يحكمونَ، وشعبُنا

متشعِّبٌ بالقتل والإقصاءِ

يحيا غريبَ الدارِ في أوطانهِ

ومُطارَداً بمواطنِ الغُرباء ؟

لكنّما يبقى الكلامُ مُحرّراً

إنْ دارَ فوقَ الألسنِ الخرساءِ

ويظلُّ إطلاقُ العويلِ محلّلاً

ما لم يمُسَّ بحرمة الخلفاءِ

ويظلُّ ذِكْرُكَ في الصحيفةِ جائزاً

ما دام وسْـطَ مساحةٍ سوداءِ

ويظلُّ رأسكَ عالياً ما دمتَ

فوق النعشِ محمولاً إلى الغبراءِ

وتظلُّ تحت "الزّفـتِ" كلُّ طباعنا

ما دامَ هذا النفطُ في الصحراءِ !

***

القاتلُ المأجورُ وجهٌ أسودٌ

يُخفي مئاتِ الأوجه الصفراءِ

هي أوجهٌ أعجازُها منها استحتْ

والخِزْيُ غطَاها على استحياءِ

لمثقفٍ أوراقُه رزمُ الصكوكِ

وحِبْرُهُ فيها دمُ الشهداء

ولكاتبٍ أقلامُهُ مشدودةٌ

بحبال صوت جلالةِ الأمراء

ولناقدٍ "بالنقدِ" يذبحُ ربَّهُ

ويبايعُ الشيطانَ بالإفتاءِ

ولشاعرٍ يكتظُّ من عَسَـلِ النعيمِ

على حسابِ مَرارةِ البؤساءِ

ويَجـرُّ عِصمتَه لأبواب الخَنا

ملفوفةً بقصيدةٍ عصماءِ !

ولثائرٍ يرنو إلى الحريّةِ

الحمراءِ عبرَ الليلةِ الحمراءِ

ويعومُ في "عَرَقِ" النضالِ ويحتسي

أنخابَهُ في صحَة الأشلاءِ

ويكُفُّ عن ضغط الزِّنادِ مخافةً

من عجز إصبعه لدى "الإمضاءِ" !

ولحاكمٍ إن دقَّ نورُ الوعْي

ظُلْمَتَهُ، شكا من شدَّةِ الضوضاءِ

وَسِعَتْ أساطيلَ الغُزاةِ بلادُهُ

لكنَها ضاقتْ على الآراءِ

ونفاكَ وَهْـوَ مُخَـمِّنٌ أنَّ الرَدى

بك مُحْدقُ، فالنفيُ كالإفناءِ !

الكلُّ مشتركٌ بقتلِكَ، إنّما

نابت يَدُ الجاني عن الشُّركاءِ

***

ناجي. تحجّرتِ الدموعُ بمحجري

وحشا نزيفُ النارِ لي أحشائي

لمّا هويْتَ هَويتَ مُتَّحـدَ الهوى

وهويْتُ فيك موزَّعَ الأهواءِ

لم أبكِ، لم أصمتْ، ولم أنهضْ

ولم أرقدْ، وكلّي تاهَ في أجزائي

ففجيعتي بك أنني.. تحت الثرى

روحي، ومن فوقِ الثرى أعضائي

أنا يا أنا بك ميتٌ حيٌّ

ومحترقٌ أعدُّ النارَ للإطفاءِ

برّأتُ من ذنْبِ الرِّثاء قريحتي

وعصمتُ شيطاني عن الإيحاءِ

وحلفتُ ألا أبتديك مودِّعاً

حتى أهيِّئَ موعداً للقاءِ

سأبدّلُ القلمَ الرقيقَ بخنجرٍ

والأُغنياتِ بطعنَـةٍ نجلاءِ

وأمدُّ رأسَ الحاكمينََ صحيفةً

لقصائدٍ.. سأخطُّها بحذائي

وأضمُّ صوتكَ بذرةً في خافقي

وأصمُّهم في غابة الأصداءِ

وألقِّنُ الأطفالَ أنَّ عروشَهم

زبدٌ أٌقيمَ على أساس الماءِ

وألقِّنُ الأطفالَ أن جيوشهم

قطعٌ من الديكورِ والأضواءِ

وألقِّنُ الأطفالَ أن قصورَهم

مبنيةٌ بجماجمِ الضعفاءِ

وكنوزَهم مسروقةٌ بالعدِل

واستقلالهم نوعُ من الإخصاءِ

سأظلُّ أكتُبُ في الهواءِ هجاءهم

وأعيدُهُ بعواصفٍ هوجاءِ

وليشتمِ المتلوّثونَ شتائمي

وليستروا عوراتهم بردائي

وليطلقِ المستكبرون كلابَهم

وليقطعوا عنقي بلا إبطاءِ

لو لم تَعُـدْ في العمرِ إلا ساعةٌ

لقضيتُها بشتيمةِ الخُلفاءِ !

***

أنا لستُ أهجو الحاكمينَ، وإنّما

أهجو بذكر الحاكمين هجائي

أمِنَ التأدّبِ أن أقول لقاتلي

عُذراً إذا جرحتْ يديكَ دمائي ؟

أأقولُ للكلبِ العقور تأدُّباً:

دغدِغْ بنابك يا أخي أشلائي ؟

أأقولُ للقوّاد يا صِدِّيقُ، أو

أدعو البغِيَّ بمريمِ العذراءِ ؟

أأقولُ للمأبونِ حينَ ركوعِهِ:

"حَرَماً" وأمسحُ ظهرهُ بثنائي ؟

أأقول لِلّصِ الذي يسطو على

كينونتي: شكراً على إلغائي ؟

الحاكمونَ همُ الكلابُ، مع اعتذاري

فالكلاب حفيظةٌ لوفاءِ

وهمُ اللصوصُ القاتلونَ العاهرونَ

وكلُّهم عبدٌ بلا استثناء !

إنْ لمْ يكونوا ظالمين فمن تُرى

ملأ البلادَ برهبةٍ وشقاء ِ؟

إنْ لم يكونوا خائنين فكيف

ما زالتْ فلسطينٌ لدى الأعداءِ ؟

عشرون عاماً والبلادُ رهينةٌ

للمخبرينَ وحضرةِ الخبراءِ

عشرون عاماً والشعوبُ تفيقُ مِنْ

غفواتها لتُصابَ بالإغماءِ

عشرون عاماً والمفكِّرُ إنْ حكى

وجبت لهُ طاقيةُ الإخفاءِ

عشرون عاماً والسجون مدارسٌ

منهاجها التنكيلُ بالسجناءِ

عشرون عاماً والقضاءُ مُنَزَّهٌ

إلا عن الأغراض والأهواءِ

فالدينُ معتقلٌ بتُهمةِ كونِهِ

مُتطرِّفاً يدعو إلى الضَّراءِ

واللهُ في كلِّ البلادِ مُطاردٌ

لضلوعهِ بإثارةِ الغوغاءِ

عشرون عاماً والنظامُ هو النظامُ

مع اختلاف اللونِ والأسماءِ

تمضي به وتعيدُهُ دبّابةٌ

تستبدلُ العملاءَ بالعملاءِ

سرقوا حليب صِغارنا، مِنْ أجلِ مَنْ ؟

كي يستعيدوا موطِنَ الإسراءِ

فتكوا بخير رجالنا، مِنْ أجلِ مَن ْ؟

كي يستعيدوا موطِنَ الإسراءِ

هتكوا حياء نسائنا، مِنْ أجلِ مَنْ ؟

كي يستعيدوا موطِنَ الإسراءِ

خنقوا بحريّاتهم أنفاسَنا

كي يستعيدوا موطِنَ الإسراءِ

وصلوا بوحدتهم إلى تجزيئنا

كي يستعيدوا موطِنَ الإسراءِ

فتحوا لأمريكا عفافَ خليجنا

كي يستعيدوا موطِنَ الإسراءِ

وإذا بما قد عاد من أسلابنا

رملٌ تناثر في ثرى سيناء !

وإذا بنا مِزَقٌ بساحات الوغى

وبواسلٌ بوسائل الأنباءِ

وإذا بنا نرثُ مُضاعَفاً

ونُوَرِّثُ الضعفينِ للأبناءِ

ونخافُ أن نشكو وضاعةَ وضعنا

حتى ولو بالصمت والإيماءِ

ونخافُ من أولادِنا ونسائنا

ومن الهواءِ إذا أتى بهواءِ

ونخافُ إن بدأت لدينا ثورةٌ

مِن أن تكونَ بداية الإنهاءِ

موتى، ولا أحدٌ هنا يرثي لنا

قُمْ وارثنا.. يا آخِـرَ الأحياءِ !  

الشعر الفصيح | الشعر العامي | أدباء العرب | الشعر العالمي | الديوان الصوتي | ENGLISH 

الأولى >> العراق >> أحمد مطر >> ما أصعب الكلام (إلى ناجي العلي)

ما أصعب الكلام (إلى ناجي العلي)

رقم القصيدة : 1916  نوع القصيدة : فصحى  ملف صوتي: لا يوجد

ِشكراً على التأبينِ والإطراءِ

يا معشرَ الخطباء والشعراءِ

شكراً على ما ضاعَ من أوقاتكم

في غمرةِ التدبيـج والإنشاءِ

وعلى مدادٍ كان يكفي بعضُـه

أن يُغرِقَ الظلماءَ بالظلماءِ

وعلى دموعٍ لو جَـرتْ في البيدِ

لانحلّـتْ وسار الماءُ فوق الماءِ

وعواطفٍ يغـدو على أعتابها

مجنونُ ليلى أعقـلَ العقلاءِ

وشجاعـةٍ باسم القتيلِ مشيرةٍ

للقاتلين بغيرِما أسمـاءِ

شكراً لكم، شكراً، وعفواً إن أنا

أقلعتُ عن صوتي وعن إصغائي

عفواً، فلا الطاووس في جلدي ولا

تعلو لساني لهجةُ الببغاءِ

عفواً، فلا تروي أساي قصيدةٌ

إن لم تكن مكتوبةً بدمائي

عفواً، فإني إن رثيتُ فإنّما

أرثي بفاتحة الرثاء رثائي

عفواً، فإني مَيِّتٌ يا أيُّها

الموتى، وناجي آخر الأحياء !

***

"ناجي العليُّ" لقد نجوتَ بقدرةٍ

من عارنا، وعلَوتَ للعلياءِ

إصعـدْ، فموطنك السّماءُ، وخلِّنا

في الأرضِ، إن الأرضَ للجبناءِ

للمُوثِقينَ على الّرباطِ رباطَنا

والصانعينَ النصرَ في صنعاءِ

مِمّن يرصّونَ الصُّكوكَ بزحفهم

ويناضلونَ برايةٍ بيضاءِ

ويُسافِحونَ قضيّةً من صُلبهم

ويُصافحونَ عداوةَ الأعداءِ

ويخلِّفون هزيمةً، لم يعترفْ

أحدٌ بها.. من كثرة الآباءِ !

إصعَـدْ فموطنك المُـرّجَى مخفرٌ

متعددُ اللهجات والأزياءِ

للشرطة الخصيان، أو للشرطة

الثوار، أو للشرطة الأدباءِ

أهلِ الكروشِ القابضين على القروشِ

من العروشِ لقتل كلِّ فدائي

الهاربين من الخنادق والبنادق

للفنادق في حِمى العُملاءِ

القافزين من اليسار إلى اليمين

إلى اليسار كقفزة الحِرباءِ

المعلنين من القصورِ قصورَنا

واللاقطين عطيّةَ اللقطاءِ

إصعدْ، فهذي الأرض بيتُ دعارةٍ

فيها البقاءُ معلّقٌ ببغاءِ

مَنْ لم يمُت بالسيفِ مات بطلقةٍ

من عاش فينا عيشة الشرفاء

ماذا يضيرك أن تُفارقَ أمّةً

ليست سوى خطأ من الأخطاءِ

رملٌ تداخلَ بعضُهُ في بعضِهِ

حتى غدا كالصخرة الصمّاءِ

لا الريحُ ترفعُها إلى الأعلى

ولا النيران تمنعها من الإغفاءِ

فمدامعٌ تبكيك لو هي أنصفتْ

لرثتْ صحافةَ أهلها الأُجراءِ

تلك التي فتحَتْ لنَعيِكَ صدرَها

وتفنّنت بروائعِ الإنشاءِ

لكنَها لم تمتلِكْ شرفاً لكي

ترضى بنشْرِ رسومك العذراءِ

ونعتك من قبل الممات، وأغلقت

بابَ الرّجاءِ بأوجُهِ القُرّاءِ

وجوامعٌ صلّت عليك لو انّها

صدقت، لقرّبتِ الجهادَ النائي

ولأعْلَنَتْ باسم الشريعة كُفرَها

بشرائع الأمراءِ والرؤساءِ

ولساءلتهم: أيُّهمْ قد جاءَ

مُنتخَباً لنا بإرادة البُسطاء ؟

ولساءلتهم: كيف قد بلغوا الغِنى

وبلادُنا تكتظُّ بالفقراء ؟

ولمنْ يَرصُّونَ السلاحَ، وحربُهمْ

حبٌ، وهم في خدمة الأعداءِ ؟

وبأيِّ أرضٍ يحكمونَ، وأرضُنا

لم يتركوا منها سوى الأسماءِ ؟

وبأيِّ شعبٍ يحكمونَ، وشعبُنا

متشعِّبٌ بالقتل والإقصاءِ

يحيا غريبَ الدارِ في أوطانهِ

ومُطارَداً بمواطنِ الغُرباء ؟

لكنّما يبقى الكلامُ مُحرّراً

إنْ دارَ فوقَ الألسنِ الخرساءِ

ويظلُّ إطلاقُ العويلِ محلّلاً

ما لم يمُسَّ بحرمة الخلفاءِ

ويظلُّ ذِكْرُكَ في الصحيفةِ جائزاً

ما دام وسْـطَ مساحةٍ سوداءِ

ويظلُّ رأسكَ عالياً ما دمتَ

فوق النعشِ محمولاً إلى الغبراءِ

وتظلُّ تحت "الزّفـتِ" كلُّ طباعنا

ما دامَ هذا النفطُ في الصحراءِ !

***

القاتلُ المأجورُ وجهٌ أسودٌ

يُخفي مئاتِ الأوجه الصفراءِ

هي أوجهٌ أعجازُها منها استحتْ

والخِزْيُ غطَاها على استحياءِ

لمثقفٍ أوراقُه رزمُ الصكوكِ

وحِبْرُهُ فيها دمُ الشهداء

ولكاتبٍ أقلامُهُ مشدودةٌ

بحبال صوت جلالةِ الأمراء

ولناقدٍ "بالنقدِ" يذبحُ ربَّهُ

ويبايعُ الشيطانَ بالإفتاءِ

ولشاعرٍ يكتظُّ من عَسَـلِ النعيمِ

على حسابِ مَرارةِ البؤساءِ

ويَجـرُّ عِصمتَه لأبواب الخَنا

ملفوفةً بقصيدةٍ عصماءِ !

ولثائرٍ يرنو إلى الحريّةِ

الحمراءِ عبرَ الليلةِ الحمراءِ

ويعومُ في "عَرَقِ" النضالِ ويحتسي

أنخابَهُ في صحَة الأشلاءِ

ويكُفُّ عن ضغط الزِّنادِ مخافةً

من عجز إصبعه لدى "الإمضاءِ" !

ولحاكمٍ إن دقَّ نورُ الوعْي

ظُلْمَتَهُ، شكا من شدَّةِ الضوضاءِ

وَسِعَتْ أساطيلَ الغُزاةِ بلادُهُ

لكنَها ضاقتْ على الآراءِ

ونفاكَ وَهْـوَ مُخَـمِّنٌ أنَّ الرَدى

بك مُحْدقُ، فالنفيُ كالإفناءِ !

الكلُّ مشتركٌ بقتلِكَ، إنّما

نابت يَدُ الجاني عن الشُّركاءِ

***

ناجي. تحجّرتِ الدموعُ بمحجري

وحشا نزيفُ النارِ لي أحشائي

لمّا هويْتَ هَويتَ مُتَّحـدَ الهوى

وهويْتُ فيك موزَّعَ الأهواءِ

لم أبكِ، لم أصمتْ، ولم أنهضْ

ولم أرقدْ، وكلّي تاهَ في أجزائي

ففجيعتي بك أنني.. تحت الثرى

روحي، ومن فوقِ الثرى أعضائي

أنا يا أنا بك ميتٌ حيٌّ

ومحترقٌ أعدُّ النارَ للإطفاءِ

برّأتُ من ذنْبِ الرِّثاء قريحتي

وعصمتُ شيطاني عن الإيحاءِ

وحلفتُ ألا أبتديك مودِّعاً

حتى أهيِّئَ موعداً للقاءِ

سأبدّلُ القلمَ الرقيقَ بخنجرٍ

والأُغنياتِ بطعنَـةٍ نجلاءِ

وأمدُّ رأسَ الحاكمينََ صحيفةً

لقصائدٍ.. سأخطُّها بحذائي

وأضمُّ صوتكَ بذرةً في خافقي

وأصمُّهم في غابة الأصداءِ

وألقِّنُ الأطفالَ أنَّ عروشَهم

زبدٌ أٌقيمَ على أساس الماءِ

وألقِّنُ الأطفالَ أن جيوشهم

قطعٌ من الديكورِ والأضواءِ

وألقِّنُ الأطفالَ أن قصورَهم

مبنيةٌ بجماجمِ الضعفاءِ

وكنوزَهم مسروقةٌ بالعدِل

واستقلالهم نوعُ من الإخصاءِ

سأظلُّ أكتُبُ في الهواءِ هجاءهم

وأعيدُهُ بعواصفٍ هوجاءِ

وليشتمِ المتلوّثونَ شتائمي

وليستروا عوراتهم بردائي

وليطلقِ المستكبرون كلابَهم

وليقطعوا عنقي بلا إبطاءِ

لو لم تَعُـدْ في العمرِ إلا ساعةٌ

لقضيتُها بشتيمةِ الخُلفاءِ !

***

أنا لستُ أهجو الحاكمينَ، وإنّما

أهجو بذكر الحاكمين هجائي

أمِنَ التأدّبِ أن أقول لقاتلي

عُذراً إذا جرحتْ يديكَ دمائي ؟

أأقولُ للكلبِ العقور تأدُّباً:

دغدِغْ بنابك يا أخي أشلائي ؟

أأقولُ للقوّاد يا صِدِّيقُ، أو

أدعو البغِيَّ بمريمِ العذراءِ ؟

أأقولُ للمأبونِ حينَ ركوعِهِ:

"حَرَماً" وأمسحُ ظهرهُ بثنائي ؟

أأقول لِلّصِ الذي يسطو على

كينونتي: شكراً على إلغائي ؟

الحاكمونَ همُ الكلابُ، مع اعتذاري

فالكلاب حفيظةٌ لوفاءِ

وهمُ اللصوصُ القاتلونَ العاهرونَ

وكلُّهم عبدٌ بلا استثناء !

إنْ لمْ يكونوا ظالمين فمن تُرى

ملأ البلادَ برهبةٍ وشقاء ِ؟

إنْ لم يكونوا خائنين فكيف

ما زالتْ فلسطينٌ لدى الأعداءِ ؟

عشرون عاماً والبلادُ رهينةٌ

للمخبرينَ وحضرةِ الخبراءِ

عشرون عاماً والشعوبُ تفيقُ مِنْ

غفواتها لتُصابَ بالإغماءِ

عشرون عاماً والمفكِّرُ إنْ حكى

وجبت لهُ طاقيةُ الإخفاءِ

عشرون عاماً والسجون مدارسٌ

منهاجها التنكيلُ بالسجناءِ

عشرون عاماً والقضاءُ مُنَزَّهٌ

إلا عن الأغراض والأهواءِ

فالدينُ معتقلٌ بتُهمةِ كونِهِ

مُتطرِّفاً يدعو إلى الضَّراءِ

واللهُ في كلِّ البلادِ مُطاردٌ

لضلوعهِ بإثارةِ الغوغاءِ

عشرون عاماً والنظامُ هو النظامُ

مع اختلاف اللونِ والأسماءِ

تمضي به وتعيدُهُ دبّابةٌ

تستبدلُ العملاءَ بالعملاءِ

سرقوا حليب صِغارنا، مِنْ أجلِ مَنْ ؟

كي يستعيدوا موطِنَ الإسراءِ

فتكوا بخير رجالنا، مِنْ أجلِ مَن ْ؟

كي يستعيدوا موطِنَ الإسراءِ

هتكوا حياء نسائنا، مِنْ أجلِ مَنْ ؟

كي يستعيدوا موطِنَ الإسراءِ

خنقوا بحريّاتهم أنفاسَنا

كي يستعيدوا موطِنَ الإسراءِ

وصلوا بوحدتهم إلى تجزيئنا

كي يستعيدوا موطِنَ الإسراءِ

فتحوا لأمريكا عفافَ خليجنا

كي يستعيدوا موطِنَ الإسراءِ

وإذا بما قد عاد من أسلابنا

رملٌ تناثر في ثرى سيناء !

وإذا بنا مِزَقٌ بساحات الوغى

وبواسلٌ بوسائل الأنباءِ

وإذا بنا نرثُ مُضاعَفاً

ونُوَرِّثُ الضعفينِ للأبناءِ

ونخافُ أن نشكو وضاعةَ وضعنا

حتى ولو بالصمت والإيماءِ

ونخافُ من أولادِنا ونسائنا

ومن الهواءِ إذا أتى بهواءِ

ونخافُ إن بدأت لدينا ثورةٌ

مِن أن تكونَ بداية الإنهاءِ

موتى، ولا أحدٌ هنا يرثي لنا

قُمْ وارثنا.. يا آخِـرَ الأحياءِ

لاعب النَردْ ........ محمود درويش

قصيدة  لاعب  النرد .. لـ   محمود درويش
-----------------------------------------
مَنْ أَنا لأقول لكمْ
ما أَقول لكمْ ؟
وأَنا لم أكُنْ حجراً صَقَلَتْهُ المياهُ
فأصبح وجهاً
ولا قَصَباً ثقَبتْهُ الرياحُ
فأصبح ناياً ...

أَنا لاعب النَرْدِ ،
أَربح حيناً وأَخسر حيناً
أَنا مثلكمْ
أَو أَقلُّ قليلاً ...
وُلدتُ إلى جانب البئرِ
والشجراتِ الثلاثِ الوحيدات كالراهباتْ
وُلدتُ بلا زَفّةٍ وبلا قابلةْ
وسُمِّيتُ باسمي مُصَادَفَةً
وانتميتُ إلى عائلةْ
مصادفَةً ،
ووَرِثْتُ ملامحها والصفاتْ
وأَمراضها :

أَولاً - خَلَلاً في شرايينها
وضغطَ دمٍ مرتفعْ
ثانياً - خجلاً في مخاطبة الأمِّ والأَبِ
والجدَّة - الشجرةْ
ثالثاً - أَملاً في الشفاء من الأنفلونزا
بفنجان بابونج ٍ ساخن ٍ
رابعاً - كسلاً في الحديث عن الظبي والقُبَّرة

خامساً - مللاً في ليالي الشتاءْ
سادساً - فشلاً فادحاً في الغناءْ ...

ليس لي أَيُّ دورٍ بما كنتُ
كانت مصادفةً أَن أكونْ
ذَكَراً ...
ومصادفةً أَن أَرى قمراً
شاحباً مثل ليمونة يَتحرَّشُ بالساهرات
ولم أَجتهد
كي أَجدْ
شامةً في أَشدّ مواضع جسميَ سِرِّيةً !

كان يمكن أن لا أكونْ
كان يمكن أن لا يكون أَبي
قد تزوَّج أُمي مصادفةً
أَو أكونْ
مثل أُختي التي صرخت ثم ماتت
ولم تنتبه
إلى أَنها وُلدت ساعةً واحدةْ
ولم تعرف الوالدة ْ ...
أَو : كَبَيْض حَمَامٍ تكسَّرَ
قبل انبلاج فِراخ الحمام من الكِلْسِ /

كانت مصادفة أَن أكون
أنا الحيّ في حادث الباصِ
حيث تأخَّرْتُ عن رحلتي المدرسيّة ْ
لأني نسيتُ الوجود وأَحواله
عندما كنت أَقرأ في الليل قصَّةَ حُبٍّ
تَقمَّصْتُ دور المؤلف فيها
ودورَ الحبيب - الضحيَّة ْ
فكنتُ شهيد الهوى في الروايةِ
والحيَّ في حادث السيرِ /

لا دور لي في المزاح مع البحرِ
لكنني وَلَدٌ طائشٌ
من هُواة التسكّع في جاذبيّة ماءٍ
ينادي : تعال إليّْ !
ولا دور لي في النجاة من البحرِ
أَنْقَذَني نورسٌ آدميٌّ
رأى الموج يصطادني ويشلُّ يديّْ

كان يمكن أَلاَّ أكون مُصاباً
بجنِّ المُعَلَّقة الجاهليّةِ
لو أَن بوَّابة الدار كانت شماليّةً
لا تطلُّ علي البحرِ
لو أَن دوريّةَ الجيش لم تر نار القرى
تخبز الليلَ
لو أَن خمسة عشر شهيداً
أَعادوا بناء المتاريسِ
لو أَن ذاك المكان الزراعيَّ لم ينكسرْ
رُبَّما صرتُ زيتونةً
أو مُعَلِّم جغرافيا
أو خبيراً بمملكة النمل
أو حارساً للصدى !

مَنْ أنا لأقول لكم
ما أقول لكم
عند باب الكنيسةْ
ولستُ سوي رمية النرد
ما بين مُفْتَرِس ٍ وفريسةْ
ربحت مزيداً من الصحو
لا لأكون سعيداً بليلتيَ المقمرةْ
بل لكي أَشهد المجزرةْ

نجوتُ مصادفةً : كُنْتُ أَصغرَ من هَدَف عسكريّ
وأكبرَ من نحلة تتنقل بين زهور السياجْ
وخفتُ كثيراً علي إخوتي وأَبي
وخفتُ على زَمَن ٍ من زجاجْ
وخفتُ على قطتي وعلي أَرنبي
وعلي قمر ساحر فوق مئذنة المسجد العاليةْ
وخفت على عِنَبِ الداليةْ
يتدلّي كأثداء كلبتنا ...
ومشي الخوفُ بي ومشيت بهِ
حافياً ، ناسياً ذكرياتي الصغيرة عما أُريدُ
من الغد - لا وقت للغد -

أَمشي / أهرولُ / أركضُ / أصعدُ / أنزلُ / أصرخُ / أَنبحُ / أعوي / أنادي / أولولُ / أُسرعُ / أُبطئ / أهوي / أخفُّ / أجفُّ / أسيرُ / أطيرُ / أرى / لا أرى / أتعثَّرُ / أَصفرُّ / أخضرُّ / أزرقُّ / أنشقُّ / أجهشُ / أعطشُ / أتعبُ / أسغَبُ / أسقطُ / أنهضُ / أركضُ / أنسى / أرى / لا أرى / أتذكَّرُ / أَسمعُ / أُبصرُ / أهذي / أُهَلْوِس / أهمسُ / أصرخُ / لا أستطيع / أَئنُّ / أُجنّ / أَضلّ / أقلُّ / وأكثرُ / أسقط / أعلو / وأهبط / أُدْمَى / ويغمى عليّ /

ومن حسن حظّيَ أن الذئاب اختفت من هناك
مُصَادفةً ، أو هروباً من الجيش ِ /

لا دور لي في حياتي
سوي أَنني ،
عندما عَـلَّمتني تراتيلها ،
قلتُ : هل من مزيد ؟
وأَوقدتُ قنديلها
ثم حاولتُ تعديلها ...

كان يمكن أن لا أكون سُنُونُوَّةً
لو أرادت لِيَ الريحُ ذلك ،
والريح حظُّ المسافرِ ...
شمألتُ ، شرَّقتُ ، غَرَّبتُ
أما الجنوب فكان قصياً عصيّاً عليَّ
لأن الجنوب بلادي
فصرتُ مجاز سُنُونُوَّةٍ لأحلِّق فوق حطامي
ربيعاً خريفاً ..
أُعمِّدُ ريشي بغيم البحيرةِ
ثم أُطيل سلامي
على الناصريِّ الذي لا يموتُ
لأن به نَفَسَ الله
والله حظُّ النبيّ ...

ومن حسن حظّيَ أَنيَ جارُ الأُلوهةِ ...
من سوء حظّيَ أَن الصليب
هو السُلَّمُ الأزليُّ إلى غدنا !

مَنْ أَنا لأقول لكم
ما أقولُ لكم ،
مَنْ أنا ؟

كان يمكن أن لا يحالفني الوحيُ
والوحي حظُّ الوحيدين
إنَّ القصيدة رَمْيَةُ نَرْدٍ
علي رُقْعَةٍ من ظلامْ
تشعُّ ، وقد لا تشعُّ
فيهوي الكلامْ
كريش على الرملِ /

لا دَوْرَ لي في القصيدة
غيرُ امتثالي لإيقاعها :
حركاتِ الأحاسيس حسّاً يعدِّل حساً
وحَدْساً يُنَزِّلُ معني
وغيبوبة في صدي الكلمات
وصورة نفسي التي انتقلت
من أَنايَ إلى غيرها
واعتمادي على نَفَسِي
وحنيني إلى النبعِ /

لا دور لي في القصيدة إلاَّ
إذا انقطع الوحيُ
والوحيُ حظُّ المهارة إذ تجتهدْ

كان يمكن ألاَّ أُحبّ الفتاة التي
سألتني : كمِ الساعةُ الآنَ ؟
لو لم أَكن في طريقي إلى السينما ...
كان يمكن ألاَّ تكون خلاسيّةً مثلما
هي ، أو خاطراً غامقاً مبهما ...

هكذا تولد الكلماتُ . أُدرِّبُ قلبي
علي الحب كي يَسَعَ الورد والشوكَ ...
صوفيَّةٌ مفرداتي . وحسِّيَّةٌ رغباتي
ولستُ أنا مَنْ أنا الآن إلاَّ
إذا التقتِ الاثنتان ِ :
أَنا ، وأَنا الأنثويَّةُ
يا حُبّ ! ما أَنت ؟ كم أنتَ أنتَ
ولا أنتَ . يا حبّ ! هُبَّ علينا
عواصفَ رعديّةً كي نصير إلي ما تحبّ
لنا من حلول السماويِّ في الجسديّ .
وذُبْ في مصبّ يفيض من الجانبين .
فأنت - وإن كنت تظهر أَو تَتَبطَّنُ -
لا شكل لك
ونحن نحبك حين نحبُّ مصادفةً
أَنت حظّ المساكين /

من سوء حظّيَ أَني نجوت مراراً
من الموت حبّاً
ومن حُسْن حظّي أنيَ ما زلت هشاً
لأدخل في التجربةْ !

يقول المحبُّ المجرِّبُ في سرِّه :
هو الحبُّ كذبتنا الصادقةْ
فتسمعه العاشقةْ
وتقول : هو الحبّ ، يأتي ويذهبُ
كالبرق والصاعقة

للحياة أقول : على مهلك ، انتظريني
إلى أن تجفُّ الثُمَالَةُ في قَدَحي ...
في الحديقة وردٌ مشاع ، ولا يستطيع الهواءُ
الفكاكَ من الوردةِ /
انتظريني لئلاَّ تفرَّ العنادلُ مِنِّي
فأخطئ في اللحنِ /
في الساحة المنشدون يَشُدُّون أوتار آلاتهمْ
لنشيد الوداع . على مَهْلِكِ اختصريني
لئلاَّ يطول النشيد ، فينقطع النبرُ بين المطالع ،
وَهْيَ ثنائيَّةٌ والختامِ الأُحاديّ :
تحيا الحياة !
على رسلك احتضنيني لئلاَّ تبعثرني الريحُ /

حتى على الريح ، لا أستطيع الفكاك
من الأبجدية /

لولا وقوفي على جَبَل ٍ
لفرحتُ بصومعة النسر : لا ضوء أَعلى !
ولكنَّ مجداً كهذا المُتوَّجِ بالذهب الأزرق اللانهائيِّ
صعبُ الزيارة : يبقى الوحيدُ هناك وحيداً
ولا يستطيع النزول على قدميه
فلا النسر يمشي
ولا البشريُّ يطير
فيا لك من قمَّة تشبه الهاوية
أنت يا عزلة الجبل العالية !

ليس لي أيُّ دور بما كُنْتُ
أو سأكونْ ...
هو الحظُّ . والحظ لا اسم لَهُ
قد نُسَمِّيه حدَّادَ أَقدارنا
أو نُسَمِّيه ساعي بريد السماء
نُسَمِّيه نجَّارَ تَخْتِ الوليد ونعشِ الفقيد
نسمّيه خادم آلهة في أساطيرَ
نحن الذين كتبنا النصوص لهم
واختبأنا وراء الأوليمب ...
فصدَّقهم باعةُ الخزف الجائعون
وكَذَّبَنا سادةُ الذهب المتخمون
ومن سوء حظ المؤلف أن الخيال
هو الواقعيُّ على خشبات المسارح ِ /

خلف الكواليس يختلف الأَمرُ
ليس السؤال : متى ؟
بل : لماذا ؟ وكيف ؟ وَمَنْ

مَنْ أنا لأقول لكم
ما أقول لكم ؟

كان يمكن أن لا أكون
وأن تقع القافلةْ
في كمين ، وأن تنقص العائلةْ
ولداً ،
هو هذا الذي يكتب الآن هذي القصيدةَ
حرفاً فحرفاً ، ونزفاً ونزفاً
على هذه الكنبةْ
بدمٍ أسود اللون ، لا هو حبر الغراب
ولا صوتُهُ ،
بل هو الليل مُعْتَصراً كُلّه
قطرةً قطرةً ، بيد الحظِّ والموهبةْ

كان يمكن أن يربح الشعرُ أكثرَ لو
لم يكن هو ، لا غيره ، هُدْهُداً
فوق فُوَهَّة الهاويةْ
ربما قال : لو كنتُ غيري
لصرتُ أنا، مرَّةً ثانيةْ

هكذا أَتحايل : نرسيس ليس جميلاً
كما ظنّ . لكن صُنَّاعَهُ
ورَّطوهُ بمرآته . فأطال تأمُّلَهُ
في الهواء المقَطَّر بالماء ...
لو كان في وسعه أن يرى غيره
لأحبَّ فتاةً تحملق فيه ،
وتنسي الأيائل تركض بين الزنابق والأقحوان ...
ولو كان أَذكى قليلاً
لحطَّم مرآتَهُ
ورأى كم هو الآخرون ...
ولو كان حُرّاً لما صار أُسطورةً ...

والسرابُ كتابُ المسافر في البيد ...
لولاه ، لولا السراب ، لما واصل السيرَ
بحثاً عن الماء . هذا سحاب - يقول
ويحمل إبريق آماله بِيَدٍ وبأخرى
يشدُّ على خصره . ويدقُّ خطاه على الرمل ِ
كي يجمع الغيم في حُفْرةٍ . والسراب يناديه
يُغْويه ، يخدعه ، ثم يرفعه فوق : اقرأ
إذا ما استطعتَ القراءةَ . واكتبْ إذا
ما استطعت الكتابة . يقرأ : ماء ، وماء ، وماء .
ويكتب سطراً على الرمل : لولا السراب
لما كنت حيّاً إلى الآن /

من حسن حظِّ المسافر أن الأملْ
توأمُ اليأس ، أو شعرُهُ المرتجل

حين تبدو السماءُ رماديّةً
وأَري وردة نَتَأَتْ فجأةً
من شقوق جدارْ
لا أقول : السماء رماديّةٌ
بل أطيل التفرُّس في وردةٍ
وأَقول لها : يا له من نهارْ !

ولاثنين من أصدقائي أقول علي مدخل الليل :
إن كان لا بُدَّ من حُلُم ، فليكُنْ
مثلنا ... وبسيطاً
كأنْ : نتعشّى معاً بعد يَوْمَيْنِ
نحن الثلاثة ،
مُحْتَفلين بصدق النبوءة في حُلْمنا
وبأنَّ الثلاثة لم ينقصوا واحداً
منذ يومين ،
فلنحتفل بسوناتا القمرْ
وتسامُحِ موت رآنا معاً سعداء
فغضَّ النظرْ !

لا أَقول : الحياة بعيداً هناك حقيقيَّةٌ
وخياليَّةُ الأمكنةْ
بل أقول : الحياة ، هنا ، ممكنةْ

ومصادفةً ، صارت الأرض أرضاً مُقَدَّسَةً
لا لأنَّ بحيراتها ورباها وأشجارها
نسخةٌ عن فراديس علويَّةٍ
بل لأن نبيّاً تمشَّي هناك
وصلَّى على صخرة فبكتْ
وهوى التلُّ من خشية الله
مُغْمًى عليه

ومصادفةً ، صار منحدر الحقل في بَلَدٍ
متحفاً للهباء ...
لأن ألوفاً من الجند ماتت هناك
من الجانبين ، دفاعاً عن القائِدَيْنِ اللذين
يقولان : هيّا . وينتظران الغنائمَ في
خيمتين حريرَيتَين من الجهتين ...
يموت الجنود مراراً ولا يعلمون
إلى الآن مَنْ كان منتصراً !

ومصادفةً ، عاش بعض الرواة وقالوا :
لو انتصر الآخرون على الآخرين
لكانت لتاريخنا البشريّ عناوينُ أُخرى

أُحبك خضراءَ . يا أرضُ خضراءَ . تُفَّاحَةً
تتموَّج في الضوء والماء . خضراء . ليلُكِ
أَخضر . فجرك أَخضر . فلتزرعيني برفق...
برفق ِ يَدِ الأم ، في حفنة من هواء .
أَنا بذرة من بذورك خضراء ... /

تلك القصيدة ليس لها شاعر واحدٌ
كان يمكن ألا تكون غنائيَّةَ ...

من أنا لأقول لكم
ما أَقول لكم ؟
كان يمكن أَلاَّ أكون أَنا مَنْ أَنا
كان يمكن أَلاَّ أكون هنا ...

كان يمكن أَن تسقط الطائرةْ
بي صباحاً ،
ومن حسن حظّيَ أَني نَؤُوم الضحى
فتأخَّرْتُ عن موعد الطائرةْ
كان يمكن أَلاَّ أرى الشام والقاهرةْ
ولا متحف اللوفر ، والمدن الساحرةْ

كان يمكن ، لو كنت أَبطأَ في المشي ،
أَن تقطع البندقيّةُ ظلِّي
عن الأرزة الساهرةْ

كان يمكن ، لو كنتُ أَسرع في المشي ،
أَن أَتشظّى
وأصبح خاطرةً عابرةْ

كان يمكن ، لو كُنْتُ أَسرف في الحلم ،
أَن أَفقد الذاكرة .

ومن حسن حظِّيَ أَني أنام وحيداً
فأصغي إلى جسدي
وأُصدِّقُ موهبتي في اكتشاف الألمْ
فأنادي الطبيب، قُبَيل الوفاة، بعشر دقائق
عشر دقائق تكفي لأحيا مُصَادَفَةً
وأُخيِّب ظنّ العدم

مَنْ أَنا لأخيِّب ظنَّ العدم ؟
مَنْ أنا ؟ مَنْ أنا ؟ .