تابعت إحدى المناقشات حول أطفال الشوارع .. كانت المناقشة تشمل نقاط إيجابية كثيرة تدور كلها حول أن هذه الظاهرة هي وليدة مجتمع يُعاني الفقر والجهل والمرض .. وأن هؤلاء الأطفال قد تم استغلالهم سياسياً من جميع الأطراف سواء الإخوان أو نظام الرئيس المخلوع الأسبق .. وأنهم كانوا يملأون ميادين التحرير في مصر .. وخاصة في ميدان التحرير بالقاهرة وفي ميدان تحرير مدينة الإسكندرية بالقائد ابراهيم وغيرها وفي بعض المدن الكبرى أيضاً بمصر .. اثناء ثورة 25 يناير 2011مـ .. ومن يستمع إلى هذه المناقشة جيداً لابد وأن يُفكر في بعض الأمور التي تم ذكرها خلال تلك المناقشة .. أولاً : أن المسؤولين أطراف المناقشة قد ذكروا أن الإخوان ونظام مبارك قد استغلوا هؤلاء الأطفال سياسياً.. لكن لم يحددوا الأشخاص الذين قاموا باستخدامهم تحديداً تاماً.. عندما تم توجيه سؤال بهذا الشأن إليهم .. ثانياً : أن أحد هؤلاء المسؤولين قد ذكر أنه لا يوجد إحصاء دقيق لأعداد هؤلاء الأطفال.. بينما ذكر الآخر أنهم 25 ألف في مدينة القاهرة فقط وإذا ما أردنا معرفة العدد النهائي على مستوى الجمهورية فنضيف نسبة 3 % إلى هذا العدد .. وهذا في حد ذاته يوضح التخبط والقصور الذي نعانيه في مصر عند دراسة الظواهر الإنسانية نظراً لعدم توفر قاعدة بيانات كاملة صحيحة وعلى أسس علمية مدروسة .. ومما يلفت النظر أن أحد المتخصصين الحقوقيين المسؤولين عن هذه الظاهرة يُجزم بأنه لا يمكن حصر هؤلاء الأطفال !!! .. أما الطامة الكبرى التي جعلتني في حالة اندهاش هي عندما ذكر ذلك المتخصص في دراسة هذه الفئة الضحية : أن إحدى مؤشرات حصر الأعداد لهذه الفئة هم أطفال الشوارع الذين يتم إلقاء القبض عليهم في إشارت المرور باعتبارهم " متشردين متسولين " يبيعون" سلعاً تافهة " مثل المناديل والذين نراهم يومياُ في إشارات المرور وفي أماكن مختلفة .. ومما يزيد الطين بلة أن هذا المسمى ( سلعاً تافهة ) موجود في القانون .. وأنه يتم إلقاء القبض على من يقوم ببيع هذه السلع من هؤلاء الأطفال الضحايا ومعاقبتهم على أساس أنه" متسول ومتشرد " .. ومن العجب العجاب أن هذا المسؤول يتكلم بثقة تامة ويؤكد على أن هذا قانون ويجب تفعيله بالرغم أنه قد ذكر أن هؤلاء الأطفال يُعذبون في السجون وأن هناك من يقوم باستعلالهم وجعلهم يبيعون مثل هذه السلع التافهة !!!.. ثم يذكر أنهم كمسؤولين لا يعلمون هؤلاء الأشخاص الذين يقومون ( بتشغيلهم الشغلانة دي ) كما قال بالحرف وباللهجة.. يالا العجب العجاب !!!.. عن أي قانون تتحدثون يا أبناء مصر الحقوقيين ؟.. وهل القانون في مصر يبصر للبعض ويتعامى عن البعض الآخر ؟ .. وهل القانون له عينان وأذنان وشفتان ويتمتع بكل الحواس لدرجة أنه يقوم بإلقاء القبض على طفل يبيع مناديل في إشارة المرور .. بينما حيتان السرقات الذين يملأون البلد يخرجون من كل قضية و تهمة براءة !!! .. يالا العجب العجاب !!! .. هذا يقال في مناقشة حول كيفية معالجة ظاهرة أطفال الشوارع وباقتناع تام !!! .. ثالثا : مما يلفت النظر أيضاً أن المسؤولين كان جل همهم هو تعريف" طفل الشارع " ..والفرق بينه وبين.." طفل في الشارع".. والفرق بينه وبين.." الطفل الضحية" .. وعدنا ثانية لحروف الجر والفتح والنصب التي تم استهلاكها في الدستور المصري الذي لم يرى النور حتى الآن .. ونحن لا نعلم أننا نعيش أكبر قضية نصب على الإنسانية !!!! ..لنجد في النهاية أن هذا الطفل يتم معاقبته نتيجة أنه يبيع "سلعة تافهة" بحكم القانون وكأنه قد كتب عليه أن يكون ضحية أبوين ثم ضحية دولة ثم ضحية قانون ثم نلومه أنه " طفل شارع " .. نعم .. يبدوا أن القانون عندنا له حواس أكثر من خمسة .. أما في الدول التي نطلق عليها نحن دول الإلحاد والكفر.. فنجد أن القانون عندهم قد فقد العينان والأذنان بل فقد كل الحواس لأنه قانون والقانون يجب أن يكون أعمى فلا يرى إلا القانون .. أنا بالطبع لست متخصصة في علم القانون .. ولكني أتناول ظاهرة إنسانية من الوجهة الاجتماعية النفسية تدرس إفرازات مجتمع يعاني الفقر والجهل والمرض ..هذا الثلاثي المرعب الذي هو الأساس في ظهور كل الأمراض الاجتماعية في أي مجتمع والتي من أخطرها قنبلة موقوتة إسمها ( أطفال الشوارع) وإن كنت أميل إلى التسمية ( أطفال بلا مأوى ) .. فإذا ما أضفنا إلى ذلك عدم تحقيق العدالة الاحتماعية مع وجود قانون يبصر ويسمع ويرى فستتضح لنا حجم المأساة التي نعيشها بالنسبة لهذه الفئة الضحية .. ثم نجد أننا .. ما زلنا دولة اجتماعات ولجان ومناقشات وتوصيات .. وما زلنا بعيدين كل البعد عن الأساليب العلمية التي يجب أن تستخدم في معالجة مثل هذه الظواهر الاجتماعية والتي يمكن الحصول عليها من الدول التي تقدمت علينا في هذا المجال .. مع مراعاة أن تكون في إطار ثقافة المجتمع المصري العام المستقاة من ديانة هذا المجتمع الوسطي وتطبيق روح وجوهر مفهوم العدل المجتمعي أو العدالة الاجتماعية والتي كانت إحدى أهداف الثورة الرئيسة !!!.. ومن الجدير بالذكر هنا أن وزيرة الشؤون الاجتماعية قد قالت في إحدى تصريحاتها : أننا الآن أمام الجيل الثالث من أطفال الشوارع .. فمتى يكون الحل ؟ .. وما الفروق بين كل من الجيلين الآول والثاني وما مدى خطورة الجيل الثالث عن كل من الجيلين الأول والثاني ؟ .. كل هذه الآسئلة مطروحة ولعل الإجابة عليها تكون بداية معالجة ظاهرة أطفال الشوارع وجعل هؤلاء الأطفال ينتمون إلى الأسرة الأم مصر.. ولنعترف إنها قضية وظاهرة وقنبلة موقوتة وليست بالسهولة بما كان في دراستها نظراً للسمات الشخصية والنفسية والقدرات العقلية التي تتصف بها هذه الفئة .. لكن في دساتير الدول التي تنشد التقدم لا يوجد مستحيل .. أعتقد أنه لابد من دستور للبلاد يشمل جميع فئات المجتمع يحدد العمر الزمني للطفولة مع تفعيل قانون يعاقب من يستغلون هؤلاء الأطفال في المواقف السياسية ويمارسون عليهم كل الضغوط اللا إنسانية واللاأخلاقية بدلاً من تطبيق القانون على الطفل الضحية الذي يبيع مناديل في إشارة المرور .. وما زلنا نحبوا تجاه الدول المتقدمة التي تحترم الإنسانية المُعذبة ..
-----------
د.شهيرة عبد الهادي
-----------
د.شهيرة عبد الهادي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق